بقلم / احسان باشي العتابي
ولدت سنة 1947 في بيت جدي لابي في منطقة الجمعية بمدينة الكوت. كان البيت يعج بالحياة على مدار اليوم تقريبا ،لوجود جدي وجدتي واعمامي الستة فيه.كنت حينها الحفيد المدلل من قبل العائلة جميعا، لاني الحفيد الوحيد لهم انذاك الذي تلتف حوله القلوب. وازداد دلالي لان والدي” له الرحمة والمغفرة” كان محبوبا بينهم لشجاعته وطيبته وكاريزمته التي لا تنسى.
منذ بدات اعي ما حولي، تعلقت بشجرة السدر (النبگ). كان جارنا يمتلك واحدة وارفة الثمار، وكنت اتحين الفرص لاتسلق الجدار الفاصل بيننا كي اقطف ما طاب لي من ثمارها الحلوة. لكنهم كانوا يعترضون دائما لبعض الاسباب التي كنت لا افهمها كوني طفل، ووالدتي بدورها منعتني خوفا علي، فقد كنت صغيرا لا اتجاوز الرابعة او الخامسة، لكن كنت مشاكسا لا اهدا فطالما سببت لها المتاعب.
في منطقة حي الربيع (الحاوي) التى لا تبعد سوى عشرات الامتار عن منطقة الجمعية التي فيها بيت جدي الذي نقطنه كما بينت كانت تسكن شقيقة جدي “ام جبار “وهي بطبيعة الحال عمة والدي وبحكم جدتي اراها كانت معتادة دائما على زيارتنا وفي احدى زياراتها كانت تجلس مع جدتي كعادتها. لمحتني وانا احاول تسلق الجدار حتى اقتطف بعض النبگ، فنهرتني جدتي. عندها تدخلت ام جبار قائلة:
“شنو القضية خية؟ خليه يصعد الحايط وياخذ نبگ، قحط لو شنو؟ هذا ابن العزيز الغالي المعدل”وتقصد والدي”لروحه الرحمة والمغفرة”.
ابتسمت جدتي وقالت بخجل:
“اي خية صح، بس الجيران يزعلون منا وما نحب نزعلهم”.
ضحكت ام جبار والتفتت الى قائلة:
“بيبي حسوني، لا تضوج. عدنا بالبيت نبگ اكثر من هنانا. تعال باي وكت ، وجيب وياك علاگة، وخذ شكد متريد.”
وبعد قليل، رامت بالمغادرة فأمسكت بيدي وقالت:
“يالله بيبي حسوني، تعال وياي حتى تشوف نبگ بيتنا.”
حاولت امي وجدتي منعي، لكنها اصرت:
“كل عقلچن،اخلي حسوني يتحسر على النبگ؟”
قادتني بخطوات صغيرة نحو بيتها،فحدثتني في الطريق:
“شوف بيبي، هذا طريق بيتنا حتى من تجي تندل الدرب حتى لا تضيع بعدين”
فأجبتها ببراءة: “نعم بيبي.”
حين وصلنا، رايت شجرة النبگ تفيض بالثمار. نادت على اهل البيت بلهجتها المحببة:
“اسمعوني ولكم ،من يجي حسوني ياخذ نبگ، محد يمنعه. فهمتوا؟”
فانفجروا ضاحكين:
“اي يمه، چاء ما ياخذ؟ شنو قحط النبگ؟”
منذ ذلك اليوم، صرت اقصد بيتها بين حين واخر ومعي كيس نايلون (علاگة) لاجمع ما استطعت من النبگ. وبعد انتقالنا الى بيتنا الجديد في منطقة اخرى، كنت كلما عدت لزيارة بيت جدي، امر على جدتي ام جبار، فتستقبلني بحفاوة وتضمني الى صدرها وتبكي لاننا ابتعدنا ولم تعد ترانا كما في السابق دائما.
كبرت، وصرت ازورها بين الحين والاخر، واصادفها احيانا في الشارع. كنت اذكرها بحكايات الطفولة، فتبتسم تلك الابتسامة الوديعة وتقول:
“اي بيبي، كبرنا… وكلشي راح وي اهله ، وي ذيج الايام الحلوة”
كانت ايامنا لا تنسى، ايام الطيبة والقلوب البيضاء،ايام شجرة النبگ التي جمعتني بجدتي الثانية_عمة والدي_. هكذا كانت العلاقات بين صلة الارحام وحتى الاقرباء البعيدين بسلسلة النسب ،يسودها التواصل الدائم بدافع الحب والمحبة والوئام والتقارب وليس لاسباب نفعية. واليوم، كلما تذكرتها،اشعر ان روحي تكاد تغادرني من شدة الحنين.
ختاما، لتلك الارواح الطيبة: الرحمة والمغفرة، ولذكراهم العطرة البقاء ما بقيت الحياة.